Search
Close this search box.

إله الألم السوري

إله الألم السوري

 وجدان ناصيف

على شاطئ بحر إيجة طفل مستلقٍ على صدره، رأسه باتجاه البحر وقدماه باتجاه اليابسة. نصف وجه الطفل غارق في الرمال. الزبد يرتطم كل حين بوجهه، الزبد يتراجع ليظهر مزيداً من وجه الطفل الهادئ. الطفل جميل الملامح وإن أخفت الرمال نصف وجهه. حذاء الطفل الأنيق في واجهة الصورة. الطفل في ثياب العيد. الطفل ذاهب في رحلةٍ لا يعرف عنها شيئا ولم تكن خياره. الطفل رأسه باتجاه البلدان الحلم، بلدان حقوق الإنسان، وقدماه باتجاه المصور والعالم، وكأنه تعمد هذه الوضعيه المتأهبة للخروج من اللوحة بعد قليل. هي لوحة رمزية للتراجيديا السورية الطويلة.

في لحظة التقاط الصورة –اللوحة لم يكن للطفل اسم، كان كلَّ أطفال سورية الذين لم يُسألوا رأيهم في البقاء أو الرحيل.. في اختيار أيّة ميتةٍ يحبذون. الصورة –اللوحة كثّفت انعدام خيارات السوريين ويأسهم، واختصرت عجز العالم عن إيجاد خيار آخر لهم فتوقف الزمن مثلما توقفت الأنفاس لحظة التقاط الصورة، لحظة الصلب الرومانية في القرن الواحد والعشرين، لحظة إعدام الإله السوري الصغير، اللحظة الأخلاقية الحاسمة.

…………

قبل حادثة الصلب الروماني للمسيح قام الرسام الأثيني بارازيوس بشراء رجل عجوز من الأولينثيين الذين باعهم فيليب كأسرى حرب. وضع الرسام الرجل تحت التعذيب لكي يستخدمه موديلاً للوحة برميثيوس مسمّراً لوضع اللوحة في معبد أثينا.

ولكي يبدو الرجل حزيناً استقدم بارازيوس عبداً لتعذيبه. لكنّ الحاضرين أبدوا تأثرهم وطلبوا منه التوقف عن تعذيبه، وكان يردُّ كلّ مرّة بأنه اشتراه ويحقّ له أن يفعل به ما يشاء.

 كبّله بالأصفاد وكان يطالب العبد بأن يعذبه أكثر لكي تظهر ملامح الحزن على وجهه.

“أطلق العجوز الأولنثيّ صرخة تقطّع القلوب، وعندما سمع الحاضرون هذه الصرخة سألوا بارازيوس عمّا اذا كان يستمتع بالرسم أم بالتعذيب، لم يجب، وراح يصرخ آمراً الجلاد:

– عذّبه أكثر، أكثر! ممتاز فلتبقِهِ هكذا، هذا هو حقا وجه بروميثيوس المتألم بشدة، بروميثيوس المحتضِر!

اجتاح الضعف العجوز فبكى.

صاح به بارازيوس :

لم يصبح أنينك بعد أنين رجل يلاحقه جوبتير.

بدأ العجوز يموت وبصوت خائر قال العجوز الأولنثيّ لرسام أثينا :

  • بارازيوس، إني أموت
  • ابق كما أنت
  • كل لوحة هي تلك اللحظة[i].”

…………………

في كل صور المسيح وأيقوناته يظهر الحزن والعذاب الشديد على وجهه، فهو الفادي والمخلص، ولم يكن ليكون ذلك لولا أن اللوحة اختارت أن تخلِّد تلك اللحظة بالذات، اللحظة الأخلاقية الحاسمة التي تبقى عالقة بالمخيلة، لحظة يتوقف الزمن عند الألم ويخلده ليصبح أزليّاً. فهل يكون الإله السوري الصغير فادي السوريين ومخلّصَهم؟

لا يبدو الأمر كذلك فليس إيلان أول طفل سوري يُقتل، سبقه ثامر الشرعي وحمزة الخطيب وحمزة الدوماني وحمزة الحلبي والديري والحمصي وآلاف الأطفال، ولا شيء حصل، لكن اللحظة الأخلاقية الحاسمة كانت لحظة التقطت الكاميرا حذاء الطفل المرمي وحيداً على الشاطئ. فالوحدة جزء من الصورة وأناقة الطفل، وحتى زبد الشاطئ.

سيهتم العالم قليلاً أو كثيراً هذه المرة وستتحدث الصحف عن اللاجئين السوريين الأحياء والغرقى وسيتناسى معظمهم سبب لجوئهم وركوبهم البحر. لكننا وبالعودة للوحة بارازيوس التي أرادها خالدة سنفهم أن البارازيوسيون يريدون اليوم بالذات، وعلى أبواب دولهم، أن يسمعوا أنيناً حقيقياً ويروا ملامح تفيض بالألم لكي تتطابق صورة الألم السوري مع نسبيّة المفهوم لديهم، لكنهم لن يلتفتوا لما يحدث داخل حدود الأرض السورية المنسيّة. فلم يعد هناك في بلاد الأسد وداعش والمساكين العالقين بينهما، ما يثير قلق هؤلاء. البارازيوسيون هم من يرفعون اليوم صور اللاجئين المهانين والغرقى ليؤكدوا أنّ القضية إنسانية بحته. هم من ساوموا على حريتنا وأحلامنا مقابل سلال غذائية وتأشيرات دخول لبلدان، نشترط لاختيارها أن تكون قوانينها سريعة في (لمّ الشمل). هم من اتفقوا بأن يكون أطفالنا وقوداً لمعارك لا تُنهزَمْ  مثلما أنها لا تُنتصَرْ.

الرحمة للأطفال والعار على قاتل السوريين الأول.

 [i] من كتاب الجنس والفزع لباسكال كينيار

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

One Response

  1. أروع ماقرأت
    سواء عن موت الطفل
    او موت السوريين
    او تحليل الموقف الغربي منه
    شكراً
    حقاً انك وجدان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »