Search
Close this search box.

من التغليب إلى الجندر

من التغليب إلى الجندر

نبال زيتونة

كثيراً ما احتفى علماء العربية قديماً وحديثاً بحيوية هذه اللغة وقدرتها على التعبير عن الجنس، وحرصها على إبراز النوع (المذكّر والمؤنّث) في سياق استعمالاتها، ما يثري معانيها ويمنحها معجماً دلالياً ضخماً في دقة التعبير، حتى أن علماء اليوم قالوا بقدرة الجنس اللغويّ (الجندر) على لعب دور محوريّ في نحوها، وعدّوا عدم التمييز بين المذكّر والمؤنّث من أقبح معالم اللحن فيها.

فإذا كانت العربية، وبشهادة علمائها، تمتلك هذه الميزة في نحوها وقواعدها، لِمَ حاولوا إذن ويحاولون طمس بعضٍ من أهمّ خصائصها الجندريّة ومحاسنها تحت مسميّاتٍ عدّة، ومنها ما يسمّى “بالظواهر اللغوية”؟ ولِمَ يكون “لحناً” في مكان و”ظاهرة لغويّة” في مكان آخر؟!

هنا لا بدّ أن نلقي الضوء على واحدة من هذه الظواهر التي تداعى العلماء لدراستها وتبويبها وتجميلها، وهي ظاهرة “التغليب في اللغة”.

 فالتغليب كما عرّفه علماء العربية: ظاهرة لغويّة نحويّة، عرفها العرب في عصورهم الأولى وأجروها في كلامهم، وأرادوا بها التنبيه إلى أهميّة المغلّب، فغلّبوا الأصل والأشرف والأنبه والأخفّ والأبلغ، وفيه مبالغة في التكريم والتعظيم.

والتغليب لغة مشتق من الجذر الثلاثيّ (غَلَب – غَلْباً وغَلَباً وغَلَبَة ومَغْلَباً ومَغْلَبَة)، وغَلَبَه: قهَره وهَزَمَه، والتغليب معناه الاستيلاء على الشيء بالقوة ودون وجه حق.

أمّا التغليب اصطلاحاً: فهو إعطاء الشيء حكم غيره، أو ترجيح أحد المعلومين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما.

وقد عمد اللغويون إلى تصنيف التغليب في عشرة أنواع، يتصدّرها تغليب التذكير على التأنيث، وهو العنوان الأبرز والرسالة الأوضح التي أرادها جهابذة اللغة.. حيث يطغى المذكّر على المشهد اللغويّ، ساحباً البساط من تحت أقدام المؤنث تحت سمع وبصر الناطقين بها، وهم الذين تغنّوا في مواضع أخرى بحيويّتها واستمراريّتها بامتلاكها جناحي الذكورة والأنوثة. ولعلّهم بهذا يسدلون الستار على حالة لغويّة صحيّة، مغالاةً منهم في تكريس الصوت الواحد (المذكّر)، ليس الغالب بقدر ما هو المغلّب، كما في المشهد الحياتيّ، على اعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية تتوازى بحضور الجنسين، وليس بالإقصاء على خلفية العلاقة بين مفهومي الجنس الطبيعي (ذكر وأنثى) والجنس اللغوي (مذكّر ومؤنّث)، على الرغم من وجود بعض الأصوات التي تقول بعدم وجود علاقة دائمة بين مفهومي الجنس الطبيعي والجنس اللغوي، وعلى رأسهم “أحمد أمين”.

من جانب آخر عمد جهابذة اللغة، لدعم فكرهم الإقصائيّ هذا، إلى التستّر بستار الأجمل والأبلغ، دون الإفصاح عن معايير واضحة تحكم درجات البلاغة والجمال التي اعتمدوها، كما لم يَغفَلوا عن عمق الفجوة التي أحدثوها بإقصاء حيّز الأنوثة وتحييده، فحاولوا تغطية الشمس بغربال حين عدّوا ذلك تمييزاً إيجابيّاً لصالح المرأة، ومن أجل حفظ قدرها وإخفائها تحت عباءة التذكير عندما يكون ذلك أنسب!.. وهنا أيضاً لم يسلموا من الخطل، فتراهم يجهدون في تصنيف الإيجابيّ والسلبيّ كما يرونه، ويشيرون إلى الأنسب برؤية أحاديّة لا لبس فيها.

ولا يفوتنا أن اللغويين عدّوا التذكير أصلاً في اللغة، فهو أوّل، والتأنيث فرع منه، كما خُلقت حواء من آدم، (ما يدّل على أصالة اللغة وذوقها الرفيع) حسب تعبيرهم.. وإذا سألت عن مواضع الذوق والأصالة فيما ذهبوا إليه، ستجدها في عقولهم وأفكارهم، غيرَ خاضعة لمعايير علميّة أو وضعيّة.

وبالانتقال إلى أنواع أخرى من التغليب، سنجد تغليب العاقل على غير العاقل، والموجود على غير الموجود، والمتكلِّم على المخاطب، والأكثر على الأقل، وهناك أنواع أخرى كثيرة كلّها تصبّ في سياق تغليب القويّ المتمثّل بالذكورة على الضعيف المرادف للأنوثة.

وإذا أردنا أن نحسن النوايا في معرض تعاطينا مع هذه الظاهرة، سنجد أن العربية على لسان لغوييها، أبقت بعض قنوات الاتصال بين المذكر والمؤنث مفتوحة، إشعاراً بالتكامل والصلة بين الجنسين، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ما يعبَّر عنه في اللغة بـ “المجازيّ والحقيقيّ”، وأيضا ما يصحّ فيه التذكير والتأنيث، فالشمس في العربية مؤنث، إلا أنها ليست جنساً حقيقيّاً، بل جنس نحويّ، وما بقي من التأنيث فيها فلأنها مصدر الحركة والحياة والتكاثر والنماء على الأرض كما المرأة، هكذا يبرّر جهابذة اللغة تأنيث الشمس في حين هي الأقوى، وكأن التأنيث هنا ليس صفة حقيقيّة فيها. ولم يستطع “المتنبي” كتم ما يجول في نفسه، فأطلقها صيحة تفضح مكنونات فكره الذكوريّ حين قال:

وما التأنيثُ لاسم الشمس عيبٌ/ ولا التـــذكيـر فخـــرٌ للهــــلال.

ولا يخفى هنا لِمَ حاول هؤلاء الإبقاء على قنوات مفتوحة بين التذكير والتأنيث، فرغم أن القمر مذكّر في العربيّة، إلا أن الجانب الأضعف فيه واضح، إذ لا يليق به التذكير، وما تأنيث الشمس لضعف فيها، فكأن المواقع هنا ليست حقيقيّة برأي المتنبي ومن خلفه فحولُ اللغة، بل هي مجازيّة، والحقيقيّ الكامن خلف هذه الأصوات هو التذكير للقويّ والتأنيث للأضعف.

وفي حُمّى التذكير والتأنيث تلك، يتندّر البعض بعرض مواقع ظلمت فيها اللغةُ العربية المرأة، متناسين أن الفكر الذكوري هو من طوّع اللغة وفصَّلها لتتسع لسلطته في مواضع، وتضيق في مواضع أخرى، وفسّر وجيّر وأضاء وأغفل، فقال في تأنيث الحيّ: حيّة، وأتبعها بعبارة “أعاذنا الله من لدغتها”، وفي تأنيث المصيب: مصيبة، والقاضي: قاضية، والنائب: نائبة، والهاوي: هاوية، مستشهداً بأفانين اللغة لتوصيف المرأة والحطّ من مكانتها. وتلك رسالة واضحة أرادها أعلام الفكر الذكوريّ للتدليل على مطبّات قد تقع فيها اللغة (الجندر)، وصولاً إلى تكريس الصوت الذكوريّ وتغليبه على الصوت الآخر.

وأخيراً، فإنّ ظاهرة التغليب في العربيّة تتعارض مع أهم ما يميّز هذه اللغة من حيويّة واستمراريّة وغنى، ولعلّ الخطر الأكبر الذي يتهدّدها إنما يأتي على يد علمائها ولغوييها، فهم يحكمون عليها بالجمود والضبابيّة والتراجع أمام غيرها من اللغات. وإذا عدنا قليلاً إلى التعريف بالتغليب، سنرى أنهم يغلّبون الأصل والأنبه والأشرف والأخفّ والأبلغ زيادة في التكريم والتعظيم، ما يعني الحكم على النصف الآخر بالدونيّة.

اللوحة للفنانة المصرية “تحية حليم”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »