Search
Close this search box.

لا حرية في دمشق أنتن المحررات

لا حرية في دمشق أنتن المحررات

رويدة كنعان

صمت كما كل الصباحات، صوت أقدام، فتح قفل الباب الرئيسي، (أبو علي الدالاتي) بصوته الخشن وابتسامته الصفراوية:” اللي بيطلع اسمها تضب اغراضها”،

“تضب اغراضها” ؟! تعني احتمالين إما إفراج أو عقوبة بنقل المعتقلة لقسم الدعارة أو القتل بالطابق العلوي، بعد الاسم الخامس” مو عقوبة لأن هاد اسم صبية معاقبة أصلاً!”،
إفراج؟!

ضج الجناح الخامس لموقوفات محكمة الإرهاب في سجن عدرا المركزي، إحداهن أغمى عليها من الفرحة، وأخرى تبكي لعدم ورود اسمها في القائمة، وأخريات تزغرد، بكاء، ضحك، فرح، حزن، أنا نفسي لم أستطع تحديد مشاعري بالضبط، ربما كان الفرح الشديد، أو الحزن والخوف والقلق على من سأتركهم ورائي، فالحرية التي ربما فقدت الأمل بالحصول عليها تنتظرني، سجلت عشرات أرقام الهواتف بغية الاتصال بهم لإعلام أصحابها بوجود ابنتهم بهذا المكان ليأتوا لزيارتها أو يرسلوا لها بعض المال لتعيش الحد الأدنى من الكرامة في السجن.

بعد الإجراءات الروتينية بتسليم الأمانات والتوقيع على أوراق قيل إنها إخلاء سبيل، وضِعنا خمس عشرة امرأة في باص السجن، الجميع بحالة شرود وخوف، وصلنا دمشق وتوقعنا أن نترك في إحدى ساحاتها لتذهب كلُ منا الى عالمها المجهول، لكن لم يتم هذا.

 إذ نحن في (فرع الأمن السياسي) بدمشق، سلمنا الأمانات كما استلمناها، رائحة البول والعفن وصلت لأنفي من الغرفة المقابلة التي أدخلنا إليها لنجد فيها نساء أخريات جُلبن من الأفرع الأمنية بذات اليوم، أهي مصادفة!!!

رأيت هبة التي غادرتنا منذ ثلاثة أشهر وكنا قد ظننا أنها تنعم بالحرية بين أهلها، لكنها كانت قد حولت من عدرا الى فرع أمن الدولة، ومن ثم إلى فرع الأمن السياسي، ياسمينة رأت اسم أخيها المفقود منذ أكثر من عامين على جدار الزنزانة، أحاديث وتخمينات ومصادفات لم تنته إلا في ظهيرة اليوم التالي حين   أدركت أنه سيتم مبادلتنا مع أسرى لدى المعارضة، لكن لا شيء مؤكد.

سُلمنا أماناتنا للمرة الثانية وكنا ثلاث وعشرون امرأة وشابين، وزعنا على باصين، يجول في خاطر كل منا…  إلى أين؟  لا أحد يدري،
تجاوزنا منطقة المزة ما يعني أننا لم نحول لفرع الجوية أو الأمن السياسي لريف دمشق، نحن على طريق دمشق بيروت، وإذا بضابط يصعد إلينا ليخبرنا:” أنتوا طلعتوا بعفو عام من سيادة الرئيس بشار الأسد، لأول مرة سيادته يوقع على إخلاء سبيل بخط ايده”، وكأنه توقع أن نطير من الفرح بهذا الخبر، تهامست مع صديقتي:” طالعين غصب عنك وعن رئيسك”.

كلامه أزعج أغلبنا، لكن زاد سخطي عندما قالت له إحدى المفرج عنهن
” الله يخليلنا ياه فوق راسنا والله نحن غلطانين بحقه وحق البلد”، كلامها استفزنا جميعاً قالت لها  إحداهن بصوت عالِ “فيكي تحكي عن حالك بس” وزاد دعاؤها وتملقها للضباط فعملنا على اسكاتها، وانتابتني رغبة عارمة أن أضربها وأعود الى السجن مع أني لست عنفيه، لكن ما منعني كبر سنها ومرضها فقط، لأن  اخلاء السبيل لا يعني أن أتملق لقاتل، ،   فأوضحت للضابط أنني غير نادمة عما فعلت وربما سأعود لنفس العمل سابقاً لأنني مقتنعة أن عملي الإنساني والسياسي كان لمصلحة سوريا التي أحب،  وأني معارضة لنظامه الآن وغداً… داست صديقتي على قدمي لكي أصمت… ففعلت”.

وبعد انتظار لساعات وساعات وإذ بسيارات همر وروز رايز” لا أعرف نوعها بالضبط لكني أحسست بالغيرة مقارنة بها مع باص السجن المسوّر، تقف فجأة، وتنزل منها.

(عادت بي الذاكرة فجأة الى يوم بارد في ساحة التنفس في سجن عدرا وإذا بالصياح يملأ المكان بدون سابق انذار، هل يعقل أننا حررنا؟ لا يبدوا هذا فلا شيء يوحي بمعركة قريبة، الباب الرئيسي مقفل! ما الخطب يا ترى؟ الصبايا تتجمهر أمام التلفاز، خبر أسر راهبات معلولا من قبل كتائب المعارضة في يبرود، معقول كل هذا الهرج والمرج لأسر راهبات سوريات؟! أجابتني احداهن” طالبين بدالهم ألف معتقلة يعني بنطلع كلنا” فقلت: أكره تسييس الدين، لكن شعوراً غريباً انتابني حينها أن أسر الراهبات سيكون سبب حريتي.)

صعد ضابط لبناني الى الباص أخبرنا أننا من الآن ننعم بالحرية المطلقة، ولنا الخيار إما أن نعود الى دمشق ونلتقي المحافظ ليحقق لنا كل ما نطلب، وكأن المحافظ يملك مصباح علاء الدين”، أو أن نذهب الى لبنان معززين مكرمين، وبعد المشاورات بيننا ارتأينا أن نعود الى دمشق لأسباب عدة أهمها عدم ثقتنا بهم وما سيحل بعائلاتنا في حال مغادرتنا من جهة، وعدم وثوقنا بحزب الله في لبنان من جهة أخرى. خاصة أن الضابط هدد بأهلها، بدمشق بشكل ضمني، احدى اللواتي طلبن النزول الى لبنان لرؤية زوجها وأطفالها المقيمين هناك.

أنزلونا من الباص والتف حولنا الجيش والأمن وبدأوا بالهتاف للرئيس مع التصوير من قبل قنوات النظام، اليوم وكأننا في وسط المسيرة المؤيدة،
لكي اتخلص من هذا الموقف طلبت من الضابط السوري أن ألقي التحية وأطمئن على الراهبات فرفض، فكررت الطلب للضابط اللبناني فوافق، فدخلنا الى صالة استقبال الضيوف في نقطة المصنع على الحدود السورية اللبنانية، تقدمنا أحد الضباط وعرَفنا بأننا السجينات المفرج عنهن، فوجهت احدى الراهبات المتعاطفات معنا خطابها لنا: أنتن المحررات ولستن المفرج عنهن.

حدثتني احداهن بأن وضعهن جيد وأنهن سعيدات لخروجنا من الاعتقال وخاصة عندما علمن أننا لسنا ارهابيات، وتهمنا لا تتجاوز العمل الإنساني أو السياسي، ودّعناهن على أن نلتقي يوماً بظروف أفضل.

اعطانا الضابط عند خروجنا من الصالة لكل محررة ألف ليرة سورية فرفضنا أخذها، وإذا بأحد الشابين المفرج عنهما معنا يقترب مني: “خديها واعطيني ياها” وهذا ما حصل بالفعل”.

وعدنا بذات الباص مع نفس الضابط الى دمشق وكانت الساعة الثالثة صباحاً وخيرونا بين فندق أمية في دمشق أو أن نعود الى بيوتنا، فاخترت مع صديقتاي الذهاب لمنزل اختي.

نزلنا من الباص بشارع الثورة، لا أصدق أن قدمي تلامسان الأرض، صرت أضرب بقدمي الأرض بقوة لأتأكد أنني أسير على الزفت، لأول مرة بحياتي أشعر بقيمة الهواء، اتنفس بعمق وبسرعة، خوفاً من شيء ما لا اعرفه، ربما خوفاً من مصادرته من قبل الأمن.
خطر لي أن أخبئه بأكياس، “أنا بتنفس حرية ما تقطع عني الهوا”، أغني أمشي أركض أبكي أصرخ أضحك أطير.

ظننت أنني حصلت على حريتي، لكن لا حرية في دمشق حيث تحولت بيوتها القديمة وشوارعها الى سجن كبير، السلاح وعناصر الأمن في كل مكان، أخاف السيارة السوداء التي تقف أمامي فجأة، أخاف من يمشي ويسترق السمع وأنا اتحدث على الهاتف. أخاف من كل ما يدور حولي.

 أمشي في شوارع دمشق وأخاطب المارة دون أن يسمعوني: “أنت عم تسمع صوت التعذيب على بعد أمتار؟”.
“أنت معقول ما صادفت سيارة بتحمل جثث ألاف الشهداء اللي قضوا تحت التعذيب؟”.
“انت جربتي تسمعي صوت أم عم تجهش بالبكاء على ابنها اللي رماه الأمن من حضنها وهو عم يرضع؟”، “انت اللي عم تلعبي مع أطفالك بالحديقة بتعرفي انه براءة ماتت بنتها بالسجن لأن مدير السجن رفض يسعفها على المشفى؟”.

أعرف ضمناً أنه لا ذنب لهم، حاولت أن ابحث عن مساحة من الحرية فلم أجد، فالسجن ليس أسواراً وسجاناً، الصوت الذي لم يغادرني “لا تنسينا لا تنسينا”.

لوحة “شخص عند النافذة” للفنان سلفادور دالي

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »