Search
Close this search box.

أم إسماعيل: ألم على ألم!

أم إسماعيل: ألم على ألم!

جمانة حسن

يصادفني كل ذاك الوجع في طريق ربما اخترته و ربما فرض عليّ بعد اختياري، لم أكن بعد قد تهيأت لرؤية أم مكلومة رغم أن الموت لم يقرب أبناءها , لكن زنزانة حقيرة حرمتها من رؤيتهم.

لقد كانت جميلة كجمال الأم في بلادي بصبرها وسعة قلبها. تبكي كل يوم على أطلال أمومة غائبة. هل كانت تتمنى لو لم تخرجهم من رحمها ليلاقوا عذاب فقدان الأب و هو حر و بين فقدان الأم خلف زنزانة نتنة.

” ويلادي شكون صاير بيهم لا عاش عمري … الله لا يسامح الي فرقنا يا يما”.

“أم اسماعيل” من دير الزور، امرأة الثلاثينات سناً الستينات تعباً و قهراً، هي المرأة التي تزوجت مبكراً ليكون ابنها البكر في العشرينات وهي في الثلاثينيات. هي المرأة التي أشقتها الحياة بزواج زوجها مرةً اخرى لتعيش الحياة ألماً على ألم.

لا تلبث أن تفجعها الحياة مرة أخرى حين دخلت تلك الغرفة الصغيرة جداً، والتي ما زلت أذكرها مع آلامي التي لا تفارقني وهذا حال غيري من الفتيات فيها. كانت ” أم اسماعيل ” اول من واجهت, اتخذت مكاناً قريباً من الباب رفضت تبديله طوال الفترة التي أمضيناها سوياً حتى بعد أن تغيرت تلك الغرفة الباردة بكل ما فيها لولا حنان أنثى عابر.

سمعت مراراً عن امرأة واجهت السجان، و فتاة أتخذت دور الجلاد ما زلت أذكر لؤم عينيها وعبارات حبها للأسد، أي لسجانها.

أحاديث متناثرة … علاء السمين يضرب امرأة لقد سحبها على طول الممر في مياه التنظيف. ووجه إليها لكمات قاسية.

أسئلة و شفقة و ألم على الوجوه : “ترى من هي ؟! ماذا عساها فعلت ؟ هل قتلت ضابطاً أم حاولت اغتيال أحد؟”

أنا الآن في غرفتها و أمامها، سألتها: “لماذا؟ ماذا فعلتِ؟ ما كل هذا الحقد عليكِ؟”

لم تجبني، فأنا قادمة من غرفة أخرى و جديدة ولم أكن مصدر ثقة لها بعد، و لها كل الحق, فما كان ضربها إلا من ثقتها بأنثى سجنت نفسها و قبلت قدمي سجانها.

لم يطل الزمن إلا وعرفت حقيقة ما حدث، قالت: “كنت أبيع الخبز بعد أن تركني زوجي وتزوج بأخرى, لا أستطيع أن أحرم أولادي ونظر عيني – كما تصفهم – من التعليم , فالكبير اسماعيل بدأت دراسته الجامعية، وهو ابن ذكي و بار”.

هذا الحديث نفسه كل مرة، و لكن لم يكتمل يوماً، فهي تأخذ جرعة من الأنين، و نندم أن طلبنا منها الكلام, فليس بيدنا إيقاف وجعها، فماذا عسانا نفعل إلا أن نحضنها و نهون عليها بأمل لازم و كلمات رتيبة، لو قيلت لنا لما احتملناها وانفجرنا غضباً في وجه قائلها.

روتين صباحي قاتل و بكاء صباحي يرافقه، و شمس نلاحق ضوءها تحت الباب, و أصوات نساء و رجال, محققين وعساكر, تتداخل وتعلن يوماً جديداً .

وعندما يبدأ التحقيق تبدأ الأصوات القاتلة و المقتولة بالارتفاع, أسير يئن تحت ضربات سياط تتفنن في تهشيم جسده, تلاحق القوة فيه لتقتلها .

صرخات توقظ فينا عجزنا, فيتجلى لنا بوضوح كم نحن عاجزون، أسرى الأمل المسفوح على عتبات الزنزانة.

و هنا تبدأ “أم اسماعيل” أنينها: “يما اسماعيل وينك؟”، ترددها و ترددها حتى يتوجع الوجع. تتوالى الحياة المرهقة على كاهل تلك المسكينة أكثر من 9 شهور و لا إشعار أو بصيص أمل بخروجها.

محقق تناساها، و سجان لا يعيرها بالاً، و مدير السجن يصرخ في وجهها لو سألته: “معلم حسام شو صار مشاني؟ أيمت اطلع؟”.

فيرد متململاً: “ولو … حاج بقا صرعتيني, أفي غيرك عندي … بتطلعي بتطلعي”.

هذا المكان لم يكن إلا جنازة ممتدة في خفايا الوطن, ونحن ميتون حتى إشعار آخر, نموت بصمت وضجيج المنتظرين.

و جاء القدر لي و لآخريات بولادة جديدة لأفارق تلك الآنات جسداً, لكنها علقت بقلبي وروحي زمناً، حتى إني لأتفقدها كل يوم أخاف أن تتفلت.

“اسماعيل بجامعة دمشق يا يما، أمانة تخبريه عني وإني رح أطلع و أشوفه, قليلو أخوتك يا اسماعيل وأختك دعاء أمانة برقبتك”. كانت هذه آخر كلماتها لي عندما ودعت ذاك المكان.

لم أجد “اسماعيل” و لا دعاء و لا أي منهم, أي قدر صادفهم, و ما أفعل بتلك الأمانة؟

هنا كانت نهاية رحلتي مع امرأة من بلدي، تلمح في كل ملمح من سناها وطناً غريباً. وصلني لاحقاً أن “أم اسماعيل” تحولت إلى عدرا بعد ان بقيت في فرع 235 حوالي أحد عشر شهراً, ليزورها ابنها الأوسط, نعم فابنها الاكبر “اسماعيل” أصبح بين فكي زنزانة, و أميرتها “دعاء” توجهت إلى دير الزور، حيث مسقط رأس أمها و أبيها، كي ترعاها خالتها. ثم خرجت هي من سجن عدرا لتصبح ملك نفسها، وتسعى في الحياة بحثاً عن دعاء و أخوتها لتسرد لهم في نهار مشمس حكاية ليل طويل انتهى.

كم تمنيت يا أماً، حسبتنا يوماً ابنتك دعاء، و حسبت كل شاب اسماعيل، أن تكون قد انتهت مواجعك و أذعنت الحياة لصبرك.

اللوحة للفنان سيرجيو لازو

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »