Search
Close this search box.

زنزانة وذاكرة

زنزانة وذاكرة

هند المجلي

كان الطريق من درعا  إلى إيلات  ( فرع فلسطين ) طويلا” وعسيراً،  تحيط بي رشاشات أربعة وستة عناصر من الأمن وباص يسير أمام السيارة يحمل العديد من رجال الأمن بالزي المبرقع. كنت أحاول كلما سنحت الفرصة أن أنظر إلى عدّاد السرعة، لم يكن يتجاوز الرقم 40! هل كان كذلك أم شبّه لي؟ لا أعرف.

أدركت أني وصلت أخيراً  إلى فرع فلسطين، بعد سفر أحسسته عمرا” طويلا”. نزل من كانوا بحراستي من السيارة ومشيت  معهم دون أن يتفوه أحد بكلمة. وعلى باب الفرع تجمع عناصر الأمن استعدادا” لاستقبال وافدين جدد من درعا، بعد أن دخلها الجيش السوري، فاتحاً . لم أميز وجوههم، فكلهم متشابهون، كانت هذه ملاحظتي منذ بدء الثورة، كيف أنهم متشابهون جدا”،  وكنت أتساءل: “هل يستنسخون عناصر الأمن؟”. إلا أني سمعت عبارة مرحبة أضحك كلما تذكرتها: “شو الأخت مجاهدي؟”. غير أن عنصر الأمن المركزي الذي كان ضمن المجموعة التي اقتادتني من درعا الى دمشق نظر الى من صدح بالترحيب  نظرة غضب، وأحاطني قائلا”: “لا تخافي يا أمي” .

حالما دخلت طُمشت عيناي بسرعة ووضعوا الكلبشات في يدي ومشيت متتبعة اشاراتهم الصوتية: “أمام، يمين، يسار”، سمعت صوت المفاتيح وصوتاً يقول  أنه باستطاعتك أن ترفعي الطماشة. دخلت  وأقفل علي الباب فوراً.

نعم … أنا معتقلة، و في زنزانة. أخيراً رأيت الزنزانة التي طالما حاولت تخيلها من خلال روايات قرأتها أو أحاديث أصدقاء وصديقات خاضوا هذه التجربة في الثمانينات. لم تشبه أبداً ماتخيلته سابقاً، متر مربع نصفه لحفرة المرحاض والنصف الآخر لجسدي. فكرت في طريقة للجلوس بهذا المكان الذي لا يتسع لقطة. كان علي أن أسند مؤخرتي فقط، ولا مكان لساقاي، فطويتهما وشددتهما  الى صدري …ثم تعبت. فكرت بطريقة أخرى، خلعت حذائي الرياضي ووضعت عليه سترتي ثم أسندت رأسي  وقسماً من جسدي، واحتمل الجدار أن أسند رجلاي عليه. هكذا كان علي أن أمضي الوقت.

ما ان غفوت حتى طُرق الباب بشدة، وارتطمت المفاتيح  الحديدية المزدحمة بالباب الحديدي الأسود، نهضت مذعورة ولبست حذائي وسترتي، استعداداً لأي شيء. فتح السجان الباب وناولني الطماشة لأضعها فوق عيني، وسار بي عبر ممر الى غرفة التحقيق. لم أكن عمياء تماماً، فقد كنت أرى الأرض التي أسير عليها، لكني لم أرى جدراناً ولا أبواباً وصولاً الى غرفة المحققين. وصار هذا طريقي ومشواري اليومي، مرتين أو ثلاث مرات، ولمدة أسبوع، وبعد ذلك مرة في اليوم.

كنت أذهب الى التحقيق وأعود لزنزانتي، ليس لي إلا ذاكرة و ذكريات، بدأت تخرج بعد زمن طويل من نسيانها. تذكرت والد صديقتي حين اعتقل مرة وكان اعتقاله في زنزانة منفردة، كيف خرج وهو نصف مجنون، يحدث نفسه، يصرخ ويضحك واحياناً يبكي دون سبب … مريع هذا المكان، وأنا من تعودت طوال عمري أن تكون الشمس هي من يوقظني، حين تدخل من نافذة غرفتي وتكتسح المكان. لا شمس هنا ولا قمر، أتحسس جسدي، حيّة أنا وميّتة أيضا، في الدنيا ولست في الدنيا. هل أمطرت السماء في غيابي؟ هل ستتعاقب الفصول بدوني؟ وتذكرت شفق، تلك الصبية التي اعتُقلت في الثمانينات وكيف خرجت بمرض نفسي لم تشف منه حتى الأن. و تذكرت بسام بعد أن خرج بقليل من معتقله وكيف أطلق على نفسه النار. وتذكرت صديقي ياسين وقد خرج من معتقله يعاني من مرض السل وكيف خرج ووزنه 37 كيلو غرام بعد ان كان وزنه 85 حين الاعتقال. و اعتقدت أيضاً أن نهايتي ستكون في هذه الزنزانة، سأموت تحت التعذيب وسيحتفظون بجثتي هنا، لن يسلموها لأهلي، كما فعلوا مع مضر الجندي.

توقعت من خلال التهم التي وجهت الي أن رحلتي طويلة في هذا المكان. وكان تفكيري مشغول أبداً بأفراد أسرتي و أصدقائي، هل علموا باعتقالي؟ أعرف كم سيحزنهم ويشغلهم غيابي، فكرت أيضا بمن عرفتهم وتعرفت عليهم منذ بداية الثورة، قدّرت الخوف الذي يعيشونه لاعتقالي وترقب دورهم بالاعتقال. كثيراُ ماتخيلت أحدهم في الزنزانة فكان قلبي يسقط هلعاُ عليهم. وهنا قررت أنني سأكون لوحدي، لا أريد لأحدهم أن يخوض هذه التجربة، وليكن اعتقالي عني وعنهم. هكذا فلسفت وجودي في هذه الزنزانة العفنة و بأنني سأفدي الكثيرين، ولكني سأخرج يوماُ، سأبقى قوية  لأخرج قوية كما دخلت، وسيكمل الرفاق في غيابي الطريق الذي بدأناه معاُ. ستنتصر ثورتنا، وسأخرج وسوريا حرة، مدنية، ديموقراطية، دولة الكرامة والقانون .

 بدأت أشعر أن روحي ترفرف في المكان مطمئنة اياي بأني حرّة رغم الجدران والأصفاد، وسأخرج حرة مهما طال الزمان، ساتحدّى السجن بارادتي ولن أضعف أو أنهار. وبدأت أعدّ أسماء من أعرفهم من المعتقلين قبل اعتقالي ب20 سنة وكيف خرجوا أقوياء وتابعوا رحلة التحدي. تذكرت يوم ذهبت الى بيت ناهد لأهنئها  بخروجها من المعتقل، بعد أربع سنوات وعدة أشهر، تذكرت ضحكتها وابتسامتها التي لم تفارقها، و أحاديثها عن عالم غريب عاشت تفاصيله لوقت ما، وتذكرت كل الثائرين والثائرات في سوريا , وعادت لي صور المظاهرات  وحماسنا والناس الانقياء وعاد لي الأمل قوياُ ومشعاُ. بدأت أعيد في ذاكرتي تاريخ حرية سوريا … 18 – 3 – 2011  … استعيد الصور والأحداث  اليومية والأسماء التي سطعت  وأحفظها في كل حواسي … حتى تاريخ اعتقالي واجتياح درعا 24-4 -2011.

كنت مسحورة بالثورة وبكثرة الأنبياء في درعا …

 خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

One Response

  1. هند يا هند ….. يبدو أنو مخزون أدب السجون في سوريا لن ينتهي، مؤلم هذا البوح يا صديقتي.. إننا حين نكتب ألمنا ننبشُ قبور الوجع ونستعيد ذاكرته!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »