Search
Close this search box.

دونيّة المرأة في الأساطير: في البدء كانت الأسطورة

دونيّة المرأة في الأساطير: في البدء كانت الأسطورة

نبال زيتونة

كثرت الدراسات وتنوّعت، تقاربت التعريفات وتباعدت… ولا عجب في ذلك، فالأسطورة شغلت الكثير من المفكّرين والباحثين لما اختزنته من ألوان الفكر الإنسانيّ عبر التاريخ، ولما حملته من هواجس المجتمعات وهمومها، ولا شكّ بأنها أعطت صورة صادقة عن طرائق التفكير الإنسانيّ وتناميه، وصاغت مخاوف الحضارات ومطامحها على شكل قصّةٍ أو حكاية أو حادثة.

ولا بدّ أن نعرّج هنا على آراء بعض الباحثين في تعريفهم الأسطورة، حيث يراها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور PAUL RECOEUR )(1913 – 2005، حكاية تقليدية تتعلق بأحداث وقعت في الزمـن الأول ومخصصـة لتأسيس الفعل الشعائري، وبشكـل عـام تأسيس كل أشكال الفكر، ومن خلالها يفهم الإنسان عالمه الداخليّ.

ويرى عالم الاجتماع الإنكليزيّ برونسلاف مالينوفسكي (BRONISLAV MALINOWFSKI (1884 – 1942، في الأسطورة واقعاً معيشاً، وليس حكاية، إنها حـدث وقع فـي فترة قديمة جداً، ولا يزال يمارس تأثيرَه على العالم وعلى المصائر البشرية.

ومن خلال المناهج التي اتبّعها الباحثون في دراستهم الأسطورة سنلقي الضوء على بعضٍ من هذه الأساطير التي تجمعها فكرة دونيّة المرأة أمام الرجل. فمن المنهج المجازي الذي يرى أن الأسطورة قصةٌ مجازيةٌ، تخفي أعمق معاني الثقافة، مروراً بالرمزيّ الذي يرى فيها قصةً رمزيّةً تعبّر عن فلسفة عصرها، وصولاً إلى منهج التحليل النفسيّ الذي يراها رموزاً لرغباتٍ غريزيّةٍ وانفعالاتٍ نفسيّة، تظلُّ الأسطورة الشاهد الفكريّ والأدبي والفنيّ المنحاز لثقافة الذكورة.

تعدّدت الأساطير التي تنتصر للفكر الذكوريّ، وتلقي باللائمة على الأنثى وتحملها وزر الهبوط من الجنة إلى الأرض، ليُكتب عليها العقابُ دون الرجل لإثم ارتكباه معاً، أو لمضاعفة عقابها قياساً بالرجل.

“سأضاعف آلامك وأحزانك… وستلدين الأطفال بالآلام وحدها… وستكون حياتك خاضعة لمشيئة الزوج…”

بهذه الكلمات خاطب الربّ حواء، المرأة الأولى، التي كما تقول الأسطورة اشتقّها الربُّ من ضلع آدم، ما يضمنُ له تبعيةَ النسل، وفيما بعد تقوم بإغوائه ليأكل التفاحة المحرمة، فيستحق كلاهما الطرد من الجنة. . أمّا حوّاء فيكون عقابها مضاعفاً، لا لشيء إلا لأنها المرأة.. وتنفيذاً لمشيئة الربّ، ظلّ الرجل يمارس سلطته عليها إلى اليوم، وظلّت بعضُ الشعوب إلى عصرٍ قريب، تحرّم على المرأة الإنجاب دون آلام المخاض، تحرّم “الولادة القيصريّة”.

فإذا كانت الأسطورة نتاجاً فكريّاً صاغته الذاكرة الجمعيّة، فقد جاءت هنا لتلبي طموحات الرجل ورغباته.. وإذا كانت حكاية مقدسة توارثتها الأجيال عبر الزمن، فها هي تتحوّل إلى نمط سلوك. وعلى ما يبدو فإن الرجل بعد إزاحته المرأةَ وإماطته الستار على عصر الأمومة، قد صاغ مناخه الأسطوري بالشكل الذي يستوعب تفوقه ويكرس دونيةَ المرأة ومسؤوليتها عن ديمومة الشقاء في هذه الحياة.

وتتكرّر الحادثة في أسطورة ميدوزا ربّةِ الحكمة والثعابين الأمازيغيّة، الجميلة التي ارتكبت الخطيئة مع بوصيدون في معبد أثينا، حيث نراها تتحمّل وحدها غضب أثينا فتسلبها جمالها وتحوّل شعرها إلى ثعابين، وليس هذا فحسب، بل تفرض عليها العزلة، حيث تطال اللعنةُ كلَّ من ينظر إليها ليتحوّل حجراً.. وكانت نهايتها على يد برسيوس الذي قطع رأسها وأهداه إلى أثينا أثناء عودته من حرب طروادة، فنال الخلود تكريماً له.

وإلى يومنا هذا يُستثنى من العقاب القاتلُ “قاتل المرأة” فيما يسمى “جريمة الشرف” بل ويكافأ في الكثير من الأعراف والقوانين، هذا إضافة إلى تكرار اقتصار العقوبة على المرأة، حيث تتحمّل ميدوزا العقاب وحدها دون بوصيدون.. كما هو حال المرأة اليوم، تعاقب على ما يسمّى بالخطيئة وحدها دون الرجل.

لم يقتصر التمييز بين الرجل والمرأة على العقاب، بل تجسّده الأسطورة في عملية الخلق أيضاً… تقول الأسطورة الهنديّة: إن الإله الأكبر، وبعد أنّ أتمّ خلق الأشياء من أرض وسماء وماء وزهر ونبات وحيوان، يعمد إلى خلق الإنسان ليستريح من عناء العمل الجبّار.. وعلى هامش عملية الخلق تلك يقرّر خلق شريك للرجل يؤنس وحدته ويسلّي عنه الهموم.. لكنه استنفد كلّ مواده، فمن أين سيأتي بالمادة الأوليّة.. يحتار بدايةً ثم يقرّر أن يأخذ شيئاً من كل الأشياء التي خلقها ويمزجها لتكون المرأة.

فأخذ من البان قوامه، ومن النسيم رقّته ومن الأفعى خبثها، ومن الأرنب وداعته، ومن الطاووس غروره, ومن الماس صلابته، ومن العسل حلاوته, ومن العلقم مرارته، ومن النار حرارتها، ومن الحمام هديله، ومن الببغاء ثرثرتها.. فكانت المرأة التي أهداها للرجل لتؤنس وحدته وتضفي البهجة على حياته..

الأسطورة هنا أظهرت أسبقيّة الرجل على الأرض، ما يعطيه حقّ السيادة والتحكّم بالأشياء.. كما تُظهر السبب الذي خُلقت لأجله المرأة، وهو تسلية الرجل ومؤانسته والتخفيف من وحدته.. وهذا العرفٌ تناقلته شعوب الأرض ليستمرّ إلى يومنا هذا محاطاً بهالةٍ من القداسة عند البعض، إضافةً إلى أنّ المواد التي صنعت منها المرأة لم تكن فريدة بل استهلكت غير مرّة في صناعة أشياء أخرى.. فالمرأة الخليطٌ تفتقد هويّتها الخاصة بها.. ما جعلها تجهد اليوم لاجتراح هويّةٍ أنثويّة في غمرة ثورتها على المقدّسات والذاكرة الجمعيّة التي انتصرت لمنظومة الفكر الذكوريّ وسطوته.

أمّا “المرأة النقمة” فتجسدها أسطورة “باندورا” التي تحمّل المرأة سبب الشقاء الإنسانيّ على هذه الأرض.

تقول الأسطورة اليونانيّة أنّ زيوس كبير الآلهة يقرّر الانتقام من بروميثوس الذي سرق النار وأعطاها للإنسان… فيكلّف “فولكانو” إله النار بصنعها مستخدما في ذلك الماء والتراب، ويطلب من آلهة الأولمب أن تضع لمساتها عليها، تمنحها فينوس الجمال، ومينرفا بعض الذكاء، وتعطيها لاتونا قلب كلب، ونفس لص، وعقل ثعلب.. ويرسلها إلى برومثيوس.. كان مجتمع الأرض من الرجال سعيداً قبل هدية ملك الأولمب.

تجاهلها بروميثيوس الحكيم، فهام بها أخوه ابيمثيوس وأصر أن يتزوجها فوافق بروميثيوس على مضض، وعاش أخوه أياما من السعادة لا توصف قبل أن تأتي هديّة زيوس للزوجين السعيدين.. وكانت الهديّة صندوقاً مغلقاً.. منع ابيمثيوس زوجته من فتحه خوفاً من مكيدة.. لكن، وبدافع الفضول فتحت باندورا الصندوق في غياب زوجها ليخرج منه الشرّ “الكراهية، الحسد، المرض، النفاق، الجوع والفقر..” سارعت بإغلاق الصندوق حيث بقي فيه المخلوق الأضعف “الأمل”.

هي المرأة إذاً، الغواية والفضول والعقاب، وسبب كلّ هذه الشرور والآفات على وجه الأرض.

ولم تقف صور المرأة الدون عند حدّ، فهذه المرة هي الخائنة، القاتلة التي لا تؤتمن على شيء حتى على أطفالها!.. تمثلها ميديا في الأسطورة الإغريقيّة، التي تخون أهلها وتبيع وطنها من أجل أوقات من المتعة واللذة تقضيها مع حبيبها، تجتمع في ميديا كل صفات الخسّة والقسوة والشراسة، التي تعبّر عنها الأسطورة بقتلها طفليها انتقاماً من الحبيب الذي هجرها من أجل حبٍّ آخر، هكذا صوّرتها الأسطورة، وفيها انتقاصٌ واضح من المرأة الأمّ والزوجة والابنة.. انتقاصٌ من المرأة الإنسانة!

ولعلّ ذاكرة الفحولة فيها الكثير مما يكرّس دونيّة المرأة بتحميلها إثم إغضاب الإله في مواضع عدّة من أساطير القدماء.. كما في الأسطورة الأفريقيّة.. تقول الأسطورة: كانت السماء قريبةً من الأرض، والله يتدلّى من قبّة السماء ويرعى شؤون مخلوقاته.. وفي يومٍ مشؤوم، مرّت امرأةٌ تحمل حزمةً من الحطب فوق رأسها، فلامست قبّة السماء، غضب الأخير وحمل السماء بعيداً عن الأرض وابتعد عن مخلوقاته.

ها هي تغضب المقدّس في عليائه، وتحمل إثمَ تخلّي الربّ عن مخلوقاته وابتعاده عنهم، ما يفسر التاريخ الإقصائيّ الطويل للمرأة عن المحافل الدينيّة في عرف العديد من الأديان والكثير من الطوائف.

فإذا كانت الأسطورة ظاهرةً ثقافيّةً مرتبطةٌ بماضي الحضارة الإنسانيّة، فلا شكّ بأنّها واكبت خطّ الحضارة هذا حتى العصر الحديث، وما زالت أساساً لثقافتنا سواءٌ أكانت اختزالاً نفسياً أم تمثيلاً عقائدياً أم أصلاً دينياً، ولها الأثر البالغ على كياننا الواعي وغير الواعي وبسبب هذا الأثر نكون نتاجاً لأساطيرنا.. فهل نعيد قراءة الأسطورة على خلفية معطىً إنسانيّ جديد؟!

وهل نستطيع التأسيس لكتابةِ عصر جديد يأخذ ملامحه بالتوازي من عصري الأمومةِ والأبوّة على السواء؟!

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »