Search
Close this search box.

أطفالنا والحرب

أطفالنا والحرب

جهاد درويش

الطفل هو الحلقة الأضعف في الحروب، فقد يُعاني لدى تعرُّضه لأيّ شكل من أشكال الصّدمة إلى الأذى الجسدي أو الضغط النفسي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الطّفل لا يملك القدرات الذّهنيّة الكافيّة، التي تسمح له أن يستوعب الخبرات الصّادمة وأن يعطيها معنىً مفهوماً. يُضاف إلى ذلك عدم قدرته على التّعبير الكلامي عن معاناته ربما نستطيع أن نفهم مدى خصوصيّة ما يعتريه من اضطراب في المشاعر والسلوك.

فالأطفال عادةً يُظهرون أنواعاً متعددة من ردود الفعل التي قد تظهر مباشرةً إثر الحادثة، أو بعد أيام أو أشهر أوحتى سنين. إنَّ الاستجابة الطبيعيّة عند الطفل تكون إمّا المقاومة و إمّا الهروب. فالمقاومة تظهر من خلال سلوكه العدائي العنيف، إذ إنه يحاول التشبّه بالمعتدي الأقوى منه علّه يبقى على قيد الحياة (غريزة البقاء). أما الهروب، فهو يتجسّد بالانعزال عن الآخرين وبفصل الذات عن كل ما يسبّب الألم والأذى.

وقد ساعدت الدراسات في معرفة مَنْ مِن الأطفال يُمكن وضعه في خانة الخطر انطلاقاً من نوع السلوك الذي يظهره. فالمعروف أنَّ ردود الفعل الحادة تظهر لدى الأطفال الذين تواجدوا في مكان الكارثة. أو اختبروا تهديدًا مباشرًا لحياتهم أو حياة من يحبّون أو تعرضوا لإصابة جسديّة خطرة أو سمعوا صُراخًا أو استغاثة ولم يتمكنوا من تقديم المساعدة، أو فقدوا الدّعم من جانب الكبار أثناء الكارثة وشاهدوا ردود فعل الكبار.

فأثناء الصّدمة، وبعدها، يعاني الطّفل من مشاعر الذّعر، العجز، والرّعب، التي تؤدي إلى اضطراب عاطفي حادٍ ومزمن. وهذا يؤدي عادةًإلى ظهور اضطرابات على ثلاثة أنواع: اضطراب ما بعد الّصدمة (Post Traumatic Stress Disorder)، اضطراب الضّغط الحاد (Acute Stres Disorder)، واضطراب التكيّف (Adjustment Disorder).

ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ اضطراب ما بعد الصّدمة ليس الاضطراب الوحيد الذي يُعانيه الطفل إثر الصّدمة, بل إنّ هناك مشاكل أُخرى من المحتمل ظهورها بعد الصدمة مثل: القلق, اليأس, نوبات الغضب المفاجئ, محاولات الانتحار, فقدان الشعور بالأمل, والشعور بالذنب, المشاكل الدراسيّة, مشاكل الذاكرة ونقص في الانتباه والتركيز, والمشاكل في العلاقات مع الآخرين, كالتعلق بأحد الأبوين أو كلاهما، أو من يقوم مقامهما بالنسبة للطفل. إضافة إلى شكلٍ من أشكال النّكوص.

عدا عن الأذى الجسدي والنّفسي والنمائي، الذي يتعرّض له الطّفل في مثل هذه الظروف، فإنَّ هناك عامل خطرٍ إضافيّ علينا الانتباه له خلال التّعامل مع الطّفل. حيثُ تتأثر منظومة القيم بشكلٍ كبير في ظروف الحروب والنزاعات المسلّحة، فيصبح تعريف مفهوم مثل: العدالة والسلوك الأخلاقي، مرتبطاً بعلاقته بواقع العنف الاجتماعي الذي يسود في الحرب، لتذهب قيم كانت سائدة وتحلّ محلّها قيما جديدة، لا تساعد للأسف على تجاوز آثار الدّمار الذي طال المجتمع على مختف الصّعد.

فمثلاً يتعرّض العديد من الأطفال إلى عمليّة تلقين شديد عن طريق وسائل الإعلام أو البيت أو المدرسة, وتميل عمليّة التّلقين هذه إلى تمجيد العنف والانتقام والتّعصّب، فينمو الطّفل على فكرة أنَّ القتل هو الوسيلة الأفضل لحلِّ النّزاعات، وأنّه أمرٌ مُباح من النّاحية الأخلاقيّة. وهذا ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً سواءً في الحياة الراهنة أم في المستقبل، وفي ظلِّ غياب العدالة المجتمعيّة تصبح هذه القيم السلبيّة تورث من جيلٍ إلى آخر وربما تمتدُّ لعدة أجيال. إذا لم يتم التّعامل معها منذ الآن.

ومايجب الانتباه إليه هو أنّ الطّفل في كثير من مجتمعاتنا العربيّة وخاصة في سوريا، يعيش وضعاً استثنائيّاً من حيث أنّ الخبرات الصّادمة متكررة ومتصاعدة ومستمرة لزمن طويل. كما أنّ المجتمع كله لازال تحت التّهديد والخطر مماجعل مصادر الدّعم والمساندة هشّة جداً وقابلة للانهيار في أيّ لحظة.

إضافةً إلى ذلك فإنّ تكرار الأحداث الصّادمة وتصاعدها واستمرارها في حياة الطّفل (في منطقتنا خاصة)، أنتجت مجموعة من الأعراض لدى هذا الطفل تخطّت الأعراض المعروفة في اضطراب ما بعد الصدمة. فالغضب غير المنصرف كان أهم هذه الأعراض الإضافيّة، حيث أنّ الطّفل يختزن الغضب والعنف وهو ينتظر لحظة الانتقام. هذا الغضب «النائم» الذي يؤذي الطّفل، إذ يجعله في حالة توتر مستمرة، ترافقها اضطرابات في النّوم ومشاعر الكره تجاه الغير، والتي تُترجم بسلوك عدائيّ تجاه أيّ شخص يثير هذه المشاعر.

ومن جهة أخرى فإنَّ تحليل وضع الطّفل في مجتمعاتنا في زمن الحرب، يحتّم علينا الإشارة إلى البيئة الحاضنة لهذا الطفل وما تحمله من خصوصيّة وعوامل قوة. ففي المجتمعات العربية غالباً ما يتلقى الناس الصّدمات بشكلٍ جماعيّ وليس بشكلٍ فردي. ونلاحظ أنّ الترابط داخل الأسرة النوويّة ومع الأسرة الممتدة لايزال قويّاً. كما هو الترابط الاجتماعي على مستوى القرية أو الحي أو المدينة. فضلاً عن الدور المهم الذي تلعبه الأديان ودور العبادة من تقوية وتحفيز الإيمان الديني في المحافظة على تماسك المجتمع وتدعيمه خصوصاً في أوقات الأزمات. كل هذه العوامل تخفف كثيراً من وقع الصّدمات على الأفراد، فهي تشكّل شبكة دعم ومساندة، علينا أن نأخذها بعين الاعتبار خلال التّداخلات فهي تشكّل عوامل قوة تساعد الطّفل وذويه في الخروج من هذه الأزمات بأقلِّ الأضرار النفسيّة.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »