Search
Close this search box.

إشكالات تغرق فيها المنظمات السورية

إشكالات تغرق فيها المنظمات السورية

بيروز بريك

لم ينتظر الأمريكيون كثيراً من الوقت بعد قيام الثورة السورية ليبدأوا بتخصيص جزء من مساعداتهم الموجهة للسوريين لدعم منظمات المجتمع المدني، ووسائل ما سمي بـ “الإعلام البديل” المتشكلة حديثاً، وخصوصاً تلك التي تمركزت في تركيا، مستفيدة آنذاك من التغاضي التركي عن موضوع التراخيص والتسجيلات. وبالنظر لعدم قدرة هذه المنظمات والصحف – في عمومها – على التمركز في الداخل وإنشاء مكاتب لها والقيام بالأنشطة. فمعظم المبادرين بتأسيس هذه المنظمات والانخراط ضمنها هم من الذين خاضوا تجربة الحراك الثوري والتنسيقيات ويئسوا منها بعد احتداد الصراع وتفاقمه، ومن ثم التجأوا لتركيا خوفاً من بطش النظام أو القوى المتشددة.

بدأت المنظمات الراعية الأمريكية والأوربية المدعومة أو المرتبطة مباشرة بمكاتب في وزارات خارجية دولها، تقديم الدعم في مجالات عدة؛ كتوفير وسائل الاتصال والأجهزة التقنية لجمهور ممن تمت تسميتهم بناشطي الثورة السلميين ودعاة المجتمع المدني والسلم الأهلي ومناصري قضايا المرأة وإدراج النوع الإجتماعي (الجندر)، والساعين للعمل ضمن برامج للعدالة الانتقالية مستقبلاً أو ضمن تدريبات صقل مهارات المواطنين الصحفيين، فتقاطرت وفود هؤلاء إلى كل من اسطنبول وغازي عنتاب لحضور ورش تدريبية ومؤتمرات وحلقات نقاش عبر منظمات سورية وسيطة.

وبالرغم من استفادة عدد لا بأس فيه من السوريين من هذا الدعم، غير أنه لم يثمر عن تبدلات نوعية على صعيد مخرجات العمل ونتائجه، إذ أن الروتين والتكرار والعمل على المفاهيم المجردة غير القابلة للتطبيق الفعلي، سيطر على مجمل عمل هذه المنظمات، واستُغِل فضاء الدعم المجزي لبعض المنظمات لغايات تحقيق طموحات شخصية، وتثبيت الحضور في المحافل و المؤتمرات والتنقل بين مطارات الدول الغربية أو ربما طلب اللجوء .

غاب عن أذهان منظمي هذه الفعاليات الكثير من تفاصيل الحياة اليومية للسوريين في الداخل، والتغيرات الدراماتيكية في المشهد الميداني، كما غاب عنهم أيضاً خصوصية كل منطقة وتمايزها عن المناطق الأخرى ضمن خارطة الصراع الدموي القائم. وحدث أن دُرّب ناشطون سوريون على تكتيكات المقاومة المدنية بحضور مدربين من تنظيم (أوتبور)الصربي مثالاً، بعد أن ضربت الحرب الدموية أطنابها في المناطق المستهدفة بهذا التدريب، وبات من المستحيل تنظيم المظاهرات المناوئة أو القيام بعصيانات سلمية فيها، تحت هدير طائرات الميغ وتهاوي البراميل وقذائف المدفعية!!. وكثيراً ما استهدفت النساء من المكون الكردي أو الدرزي أو الإسماعيلي القادمات من مجتمعات أقل محافظة، بالتدريب في نفس الوقت مع نساء محافظات إلى حد بعيد من ريف حلب أو إدلب، بنفس المعايير والوسائل التدريبية والمواد التدريبية دون النظر إلى الفروق الاجتماعية واختلاف العادات والتقاليد، وبالتغافل أحياناً عن التبعات النفسية و الاجتماعية الناشئة عن الظروف الميدانية في المناطق التي ينحدر منها المتدربون والمآلات التي وصلت إليها حال مجتمعاتها المنكوبة!!.

تتم كتابة المشاريع وإرسالها للممولين في سرعة محمومة دون أن يسترعي انتباه أحد وجود مؤشرات من قبيل أن هنالك ناشطين في مناطق سورية عديدة درجوا على طلب حذف كلمة (الديمقراطية) من المنشورات التوعوية والصحف الحديثة النشأة، كنوع من التقية، لأنها توازي (الكفر) في عرف القوى المتنفذة في تلك المناطق، بينما قد لا يشكل توارد هذه المصطلح استفزازاً لأحد كما هو الحال في المناطق التي تسيطر عليها القوى الكردية والتي يرفض سكانها قبل قواها السياسية التشدد الديني وحركات الإسلام السياسي على اختلافها، وقد لا يشكل هذا الافتراق في التناول معطى ذا قيمة لدى المشتغلين في هذا الوسط، إذ أن غياب تشخيص واقع كل منطقة واحتياجاتها، و تقييم ظروفها بشكل جدي بات ملمحاً عاماً يتم التغاضي عنه تحت حجة الوضع الأمني المتردي.

لولا بعض الجهود والإضافات التي تطعّم بها هذه الأنشطة من قبل أشخاص متابعين للحدث اليومي والمتغيرات، لاستحالت إلى مجرد تمثيليات لاستجلاب التمويل لا أكثر، فما الجدوى من ضخ عشرات آلاف الدولارات على تنظيم ورش ولقاءات لتكريس السلم الأهلي في منطقة الجزيرة رغم اتفاقات معلنة وأخرى غير معلنة، تعكس واقع حال معظم القوى والفعاليات المجتمعية فيه من كرد وعرب وسريان، والمتفقة على نبذ التناحر والاقتتال أصلاً والالتفات إلى تأمين متطلبات العيش الأساسية؟ بينما تندر المشاريع التنموية الكبيرة والصغيرة ذات التأثير المباشر على حياة السكان المحليين ومئات آلاف النازحين في هذه المنطقة المتمعة بأمان نسبي بالنظر لتركيبتها والتوازنات السياسية والديمغرافية فيها ! فمن لهم الأحقية بأن يدعموا في مجال التعايش هم سكان المناطق المتداخلة طائفياً في حمص وريفها وحماة وإدلب واللاذقية، وأغلبهم محروم من التثقيف والدعم في هذا المجال، كون مناطقهم تشهد حرباً طاحنة ويرفض المتحكمون في هذا الصراع الالتفات لأي مبادرات تحقن الدماء فيها. وكنوع من المواربة والهروب تلتفت هذه المنظمات للمناطق التي يسود فيها التعايش أصلاً لإثبات أنها “تعمل دونما كلل” على ملفات كدعم التعايش والتسامح وتكريس السلم الأهلي بينما تهمل المشاريع التنموية الحقيقية فيها لكونها تتطلب استدامة وتحتاج إلى خبرة ومهارات وتواجدات في الميدان تتعدى حدود التفاصح وإلقاء المواعظ والكلام في الهواء، والذي يبرع فيه العديد ممن يعتبرون أنفسهم بناة السلام وسدنة التعايش ومناصرون للمرأة وأدوارها المؤثرة ضمن الحرب!!.

استطاعت تلك الورش والملتقيات التي يشترك في حضورها مزيج من السوريين المنحدرين من مناطق متعددة، رسم خطوط للتفاعل والتواصل بين المجموعات، وأنشأت حيزاً للتعارف وتكوين الصداقات ارتقى بعضها إلى إعجابات متبادلة وزيجات. غير أنها لم توفق بتاتاً في إنشاء ارتكازات مدنية حقيقية أو شبكة لسعاة سلام حقيقية في خضم بحر الدماء السوري المتلاطم، ولهذا يجدر بهذه المنظمات أن تسعى بكل قوتها إلى تشجيع التخصص ورفد مشاريعها المقدمة للدعم بمزيد من الدراسات والتقييمات الجدية، كما يترتب على المنظمات الدولية دعم المنظمات السورية التي تعمل وفق برامج محلية محددة، وأن تتشدد في تفضيل الراهني والمستعجل على ما هو فضفاض وحمّال أوجه، وأن تميّز بين من يسيل لعابه على الرواتب والتمويلات وهوامشها وبين من تؤرقه هموم الناس وانتظاراتهم، ولدى هذه الجهات الممولة من الاختبارات التي أنجزتها في هذا المضمار الكثير بحيث تستطيع التمييز والانتقاء فيما لو توّفرت الرغبة لديها .

ومن المفيد ههنا تقديم بعض المقترحات لتطوير هذا المجال ووضعه في خدمة الصالح العام بدل أن ينمط العمل في المجال المدني ككل على أنه مجال للتكسب و صناعة الأسماء عن طريق خطوات منها:

  • محاولة الضغط على الجهات الداعمة لتمويل المشاريع التنموية و الخدمية للناس، وتفضيلها على ورش بناء السلام وفض النزاع، دون التقليل من قيمة الأخيرة .
  • العمل على جعل العمل الموجه في خدمة بناء السلام ودعم التعايش تخصصياً،ومقنناً، كأن تصدر – على سبيل المثال –مجلات وصحف ومطويات ذات توجه نحو تأصيل التعايش و تحقيق السلم الأهلي، مع أداء دورها كوسائل إعلامية ترصد التحولات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية المرافقة للنزاع، و يجترح كتابها الحلول و ينمّوا تجاربهم الصحفية .
  • إيجاد فرز بين الناشطين الذين تتم دعوتهم للورشات وفق التخصصات، بحيث لا يقبل ناشط في مجال الدعم النفسي للأطفال –مثلاً- ضمن ورشة لكيفية صياغة الخبر الصحفي، أو أخرى لكيفية صياغة الميزانيات ضمن المشاريع !!.
  • العمل على التشبيك بين المنظمات بشكل حقيقي، و بناء تحالفات عميقة ووثيقة بين المنظمات ذات الحضور ونسف أسطورة قدرة منظمة بذاتها تغطية الخارطة السورية من أقصاها لأقصاها كما يتوهم البعض .

يتطلب العمل المدني صبرا،ً و متابعة، واستمراراً لدى العاملين ضمنه، وهذا ما يبشر ببعض الخير كون هذا النوع من العمل سيلفظ عدداً كبيراً من حارقي المراحل، و الطارئين، ومبدلي المهن و الوظائف خلال الفترة القادمة كما ستتكون لدى المنظمات العاملة خبرة لأبأس بها، وستميل نحو التخصص، وستنقرض حالة الناشط متعدد الأوجه و الأدوار.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »