Search
Close this search box.

احتجاز النساء في سورية… سلاح دمار اجتماعي

احتجاز النساء في سورية… سلاح دمار اجتماعي

ماتيو روتيه 

كانت سلام تتطلع شوقاً لالتئام شملها مع أسرتها وزوجها بعد مضي عام على احتجازها في ظروف مروعة. بيد أنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن الأمور لن تعود كما كانت عليه. وحالما أُفرج عنها من سجن دمشق المركزي، طلّقها زوجها، وأضحت وحيدة وخائفة ويائسة، ولم يبقَ أمامها خيار سوى السعي الى اللجوء خارج البلد. قصة سلام ليست فريدة من نوعها في بلد ما انفكت الحرب تمزق نسيجه الاجتماعي، وتجعل الأمل بعودة الأمور إلى طبيعتها أبعد منالاً مع مرور الأيام.

وكما الحال في النزاعات الأخرى، شهد النزاع السوري استخداماً تدريجياً للنساء بصفتهن سلاحاً ينشر الرعب في النفوس. إذ لا يقتصر العنف الذي يستهدف النساء على إلحاق الأذى النفسي والبدني بهن، بل يُفضي أيضاً إلى تفكيك الأسر وتمزيق النسيج الاجتماعي لسورية وإخفاء أي بصيص أمل بتسوية النزاع فيها.

نظراً الى مناخ العنف المهيمن واستمرار القمع الذي ترتكبه قوات الأمن والتهديدات من الجماعات المسلحة والوصم الاجتماعي وتقصير المجتمع الدولي في التصدي لظاهرة الإفلات من العقاب وتوفير الحماية للمدنيين، تتردد غالبية النساء في الإبلاغ عن الإساءات، مما يجعل المحاسبة أمراً شديد الصعوبة، على رغم أهميته الحيوية لتسوية النزاع.

وقد بذلت مجموعات حقوق الإنسان السورية جهوداً لتوثيق الانتهاكات، وكشفت عن أن آلاف النساء السوريات تعرضن للاحتجاز، فيما لا تزال المئات قيد الاحتجاز، وغالباً ما يُحرمن من الاتصال بالعالم الخارجي. وقد جمعت «الشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان» إفادات من أكثر من 50 شخصاً من بينهم محتجزات سابقات، وأفراد عائلات نساء محتجزات، وإختصاصيون نفسيون، وكشفت هذه الإفادات عن ممارسات رهيبة من التعذيب وإساءة المعاملة والإساءات الجنسية ضد النساء في مرافق الاحتجاز، عدا الأثر المؤلم الذي يسببه اعتقال النساء لأفراد عائلاتهن، مما يُنذر بأفق قاتم للنزاع في سورية.

ويُستخدم احتجاز النساء كأسلوب للعقاب الجماعي بهدف تدمير هوية الضحايا وترهيبهن وتمزيق النسيج الاجتماعي لمجتمعاتهن المحلية.

ومنذ اندلاع الثورة السورية، انهمكت الحكومة السورية بصفة تدريجية بحملات اعتقال تعسفي للنساء، لا سيما اللاتي شاركن في الاحتجاجات السلمية، والناشطات، والمعارِضات، والصحافيات، وعاملات الإغاثة. وعلى رغم أن السلطات أفرجت عن الكثير منهن بعد فترة وجيزة من احتجازهن، إلا أنها أبقت عدداً منهن قيد الاحتجاز لفترات أطول للضغط على عائلاتهن، أو منع أقاربهن من الانضمام إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة. وقامت وسائل الإعلام الحكومية بالتشهير بالمحتجزات ووصفتهن بأنهن «إرهابيات» و «مخربات» وحتى «مستعبدات جنسياً للجماعات الإرهابية».

ومع تصاعد الحرب، بدأت قوات الأمن شن مداهمات منهجية واسعة النطاق على معاقل المعارضة واستخدمت نقاط التفتيش العسكرية لاعتقال النساء بطريقة عشوائية، حيث تحتجزهن لفترات طويلة ثم تفرج عنهن، ويتم ذلك عادة بعد الحصول على الرشى أو كجزء من عمليات تبادل الأسرى مع جماعات المعارضة.

وسَعَت بعض جماعات المعارضة للحصول على أدوات للمساومة مع النظام السوري، فبدأت هي بدورها باختطاف النساء. ونتيجة لذلك، غدت النساء السوريات مستهدفات بصفة عشوائية من معظم أطراف النزاع.

تقدم المــعلومات المتوافرة عن الأوضاع الفظيعة في قسم النساء في سجن دمشق المركزي لمحة عن محنة المحتجزات، إذ يتعرضن للإذلال في زنزانات مظلمة ومزدحمة بأوضاع مزرية، ومن دون مراعاة لحالتهن الصحية أو تقدمهن في السن. ويزداد الوضع سوءاً في مرافق الاحتجاز السرية والأقبية المنشأة تحت الأرض، مثل السجن ذي السمعة الشائنة في الفرع 215 للاستخبارات العسكرية حيث تسود ممارسات التعذيب النفسي والمضايقات والإساءات الجنسية.

وثمة محنة أخرى تنتظر المُحتجزات عندما يُفرج عنهن، فمعظم المُحتجزات السابقات يعانين من الوصم والنبذ من عائلاتهن ومن المجتمع بصفة عامة. فالمجتمع السوري، لا سيما المجتمعات المحلية المحافظة، يربط بين احتجاز النساء والاغتصاب، مما يعود بالعار على الأسرة والمجتمع المحلي. وكما هي حال سلام، تجد نساء عديدات أنفسهن مطلقات حال الإفراج عنهن، في حين تقرر بعض المحتجزات التكتم عن تعرضهن للاحتجاز خشية العار والنبذ الاجتماعي، أو يقررن اللجوء خارج البلد هرباً من الوصم الاجتماعي. وقد أدى الخوف من التعرض لهذا المصير بعائلات عدة بأكملها أن تتوجه إلى مخيمات اللاجئين البائسة المنتشرة في سورية والدول المجاورة، مما يفاقم أزمة اللاجئين.

إن احتجاز النساء يغذي دوامة العنف والانتقام ويطيل أمد النزاع. لذا فإن محاسبة مرتكبي الاحتجاز التعسفي ضد النساء والعنف القائم على النوع الاجتماعي، ليس فقط ضرورة أخلاقية وقانونية، وإنما يمثل أمراً حيوياً لكسر دوامة العنف ولتمهيد الطريق أمام السلام والمصالحة.

ولا بد من إقامة برامج مجتمعية قوية مصممة للتعرف الى ضحايا الاحتجاز والعنف الجنسي وتوفير المساعدة لهن، كي لا يعانين بصمت وفي الخفاء. ومن المهم للمجتمع الدولي، أكثر من أي وقت مضى، أن يدعم هيئات المجتمع المدني السورية في جهودها لوضع الأساس لإعادة تأهيل ضحايا الاحتجاز والتعذيب، ولتغيير المواقف الاجتماعية إزاء ضحايا العنف والاحتجاز. ويجب على المجتمع الدولي أن يضمن مشاركة الجماعات المعنية بحقوق النساء والناشطات السوريات البارزات في مفاوضات السلام والعمليات الانتقالية.

من الضروري أيضاً العمل على تغيير المواقف الاجتماعية التمييزية المتجذرة وممارسات الوصم التي تتعرض لها المحتجزات السابقات، من خلال حملات التثقيف والتوعية، بهدف إعادة بناء المجتمع والسلام الدائم.

* المسؤول عن برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «الشبكة الأورو – متوسطية لحقوق الانسان».

عن جريدة “الحياة”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »